في مناظرةٍ حصلت مؤخراً حول دراسة الرموز المقدّسة، تحوّل النقاش إلى فكرة تناولها ميكيافيلّي وانتقلت إلى جان جاك روسو وآخرين بعدهما، ألا وهي "الدين المدني" لدى الرومان. وهذا الأخير عبارة عن مجموعة من المعتقدات والواجبات من شأنها الحفاظ على لحمة المجتمع. وأشار أحدهم إلى أنّ هذا المفهوم، الفاضل بحدّ ذاته، قد يقود بسهولة إلى اعتبار الدين "وسيلة للحكم"، أي بعبارة أخرى، وسيلة قد تستعملها سلطة سياسية (يمثّلها كفار ربما) لإبقاء الرعايا خاضعين لقوانينها المعمول بها. لقد عبّر عن هذه الفكرة أشخاص اختبروا "الدين المدني" لدى الرومان، وأحدهم المؤرّخ اليوناني بوليبيوس الذي كتبه في مؤلّفه "تواريخ" حول موضوع الشعائر الرومانيّة قائلاً إنّه "من العبث اللجوء إلى وسائل كهذه في دولة لا تضمّ إلاّ رجالات حكماء. لكن، بما أنّ الحشود بطبيعتها متقلّبة ومعرّضة للعواطف على أنواعها، بدءاً بالجشع غير المكبوح وانتهاءً بالغضب العنيف، فما من خيار سوى لجمها، عبر اللجوء إلى أنظمة ومخاوف غامضة من هذا القبيل. لهذا أرى أنّ الأسلاف كانت لهم أسبابهم الخاصة في تعريف الحشود إلى العقائد الدينيّة والخرافات حول هيديس، وأعتقد أنّ الناس يتصرّفون اليوم بطيش وتهوّر عندما يرفضونها... وقد تحكّم الرومان في سفاراتهم ومؤسّساتهم العامة بمبالغ ماليّة طائلة، لكنّهم بقوا مستقيمين، احتراماً لعهد أقسموه. ومع أنّنا قلّما كنّا نجد شخصاً لا يمدّ يده إلى الأموال العامّة في محيط آخر من الناس، فمن النادر أن يكون في أوساط الرومان شخص متّهم بارتكاب ذنب من هذا النوع." ومع أن الرومان تصرّفوا بطريقة فاضلة خلال مرحلة الجمهوريّة، فلا شكّ أبداً في أنّهم كفّوا عن ذلك في إحدى الحقب اللاحقة من تاريخهم. ونفهم السبب الذي دعا الفيلسوف الهولندي "بنديكت دي سبينوزا"، بعد عقود عدّة، وتحديداً في القرن السابع عشر الميلادي، إلى إعطاء تفسير آخر لـ"وسيلة للحكم" وللاحتفالات ذات الصلة المثيرة للاهتمام، في "البحث اللاهوتي – السياسي" الذي كتب فيه: "وهكذا، مع أنّه صحيح أنّ السرّ الكبير والأهمّية القصوى للأنظمة الملكيّة يكمنان في إبقاء الناس مخدوعين وإخفاء الخوف المستعمل لإخضاعهم تحت غطاء مضلّل هو الدين، وذلك ليكافحوا في سبيل ما يربطهم وكأنّه يشكّل خلاصهم... صحيح أيضاً أنّه يستحيل تصوّر أو محاولة إدراك أمر أكثر تدميراً داخل مجتمع حرّ". وسرعان ما ننتقل من هذه الفكرة إلى تعريف الدين بحسب ماركس بوصفه "أفيون الشعوب". لكن هل يصحّ القول إن الأديان كلّها تتمتّع بهذا النفوذ؟ ثمة وجهة نظر مختلفة تماماً لدى الكاتب البرتغالي "خوسي ساراماغو" الذي بقي يشجب الدين على أنّه مصدر للنزاع: "لن ينجح أيّ دين يوماً -من دون استثناء- في الجمع بين الناس وحثّهم على المصالحة. بل إنّه، على العكس، كان ولا يزال يسبّب المعاناة والمجازر وأعمال العنف الجسديّة والروحيّة الوحشيّة التي تعجز الكلمات عن وصفها وتشكّل أكثر الحقبات ظلمة في تاريخ البشريّة البائس". وفي مثال آخر، استنتج ساراماغو أنه "لو كان الجميع ملحدين، لعشنا في مجتمع أكثر سلاماً". لست متأكّداً من أنه محقّ، لكن يبدو بلا أدنى شكّ وكأنّه تلقّى ردّاً غير مباشر من بابا الفاتيكان "بنديكتوس السادس عشر" في منشوره البابويّ الأخير "بالرجاء مخلَّصون"، حيث قال إنّ إلحاد القرنين التاسع عشر والعشرين، وإن بدا، بحدّ ذاته، وكأنّه اعتراض على أنواع الظلم في العالم والتاريخ الكوني، "أدّى إلى أفظع أنواع الوحشيّة وانتهاك العدالة". ويراودني الشكّ في أن البابا كان يفكر في الثنائي الكافر الذي يشكّله لينين وستالين، لكنّه نسي أنّ قوام النازيّة اشتمل على عبارة "الربّ معنا". وأنّ حشوداً من كهنة الجيش باركوا رايات الفاشيين الإيطاليين. وأنّ الجزّار الإسباني الشهير "فرانسيسكو فرانكو"، ألهمته مبادئ دينيّة راسخة ودعمته جيوش المسيح- الملك. وأنّ مشاعر دينيّة عميقة ألهمت المشاركين في ثورة "فانده" في نزاعهم ضدّ الجمهوريين الفرنسيين الذين جعلوا "المنطق" ("وسيلة للحكم") إلهاً لهم. وأنّ الكاثوليكيين والإنجيليين ارتكبوا المجازر ضدّ بعضهم البعض لسنوات طويلة. وأنّ دوافع دينيّة حفّزت الصليبيين وأعداءهم. وأنّ الرومان دافعوا عن معتقداتهم الدينيّة عبر رمي المسيحيين إلى الأسود. وأنّ أسباباً دينيّة علّلت إحراق الكثيرين. وأنّ مشاعر دينيّة متطرّفة ألهمت الأصوليين الإسلاميين والمسؤولين عن هجمات 11 سبتمبر (أيلول) وأسامة بن لادن وحكومة "طالبان" التي قصفت أصناماً لبوذا. وأنّ نزاعاً قائماً، منذ أمد بعيد، بين الهند وباكستان لأسباب دينيّة. وأنّ الرئيس الأميركي جورج بوش، في نهاية المطاف، أطلق عبارة "فليبارك الله بلادنا ومن يدافع عنها" عندما باشر في احتلال العراق... وعليه، تبيّن لي أنه في حين كان الدين، أو لا يزال، "أفيون الشعوب" في بعض المرات، إلا أنه كان كوكايين الشعوب في مرّات أكثر. بل لربّما كان الإنسان نفسه حيواناً مخدّراً. أمبيرتو إيكو ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"